يتشابك التاريخ بالأسطورة فينسجان معاً قصّة دير النوريّة. ما هو تاريخ هذا الدّير وأين هي الأسطورة من الواقع؟
على مسافة خمسة وسبعين كيلومتراً من بيروت وعلى ارتفاع أكثر من مئتي متر يقع دير سيّدة النوريّة التابع لمطرانيّة جبيل والبترون وتوابعهما، جبل لبنان. يصف الكاتب الصليبيّ ألبرت أوف ايكس الدّير بقوله: “عند قمّة هذا النتوء الصخريّ الذي يشكّل رأساً جبليّاً ضخماً ممتداً في البحر، شيّد برج لمراقبة الطريق البحريّ عبر كوّة ضيّقة”
أصل التسمية
يختلف المفسّرون حول أصل التسمية. الراهب اليسوعيّ أوريان كريسلون كان في رحلة من صيدا الى طرابلس، برفقة ثمانية أتراك وتاجرين فرنسيّين، عندما فاجأتهم عاصفة بحريّة، وأخذت الأمواج العاتية تتلاعب بالمركب، عندها نذر الراهب والتاجرين أن يصوموا كلّ سبت على مدى حياتهم، وللتوّ هدأ النوّ. وقال هدا الراهب في العام 1650 إن الدّير يدعى “دير سيّدة المنيرة” لأن العذراء كان تنير الجبل في ليالي العواصف ليرى البحّارة صخور هذا الرأس الأكثر خطراً من سواه على شاطئ البحر، وكان أصحاب المراكب يطلبون معونتها. أو قد تعني كلمة نوريّة العطايا التي تقدّم الى الإكليريكيّين في عيد الظهور الإلهي، ودعيت هكذا لغزارة عطايا والدة الإله وعجائبها
أمّا القسّ الأنكليكانيّ هنري منودريل، المقيم في حلب، فقد قام برحلة من حلب الى القدس ووصف الأماكن التي زارها، ومنها رأس الشقعة، وقال إنّه مرّ برأس وجه الحجر. وممّا ورد في كتابه: “يبدو أنّ الشناخ (أنف الجبل) الذي أنهينا به رحلتنا هو عينه الذي دعاه سترابون “وجه اللّه”، وكنّا عازمين على تخطّي الصعوبات التي يشكّلها اجتياز الرأس الذي يعبره درب موغل وصعب يبعد نحو ميل عن شاطئ البحر، بحيث إننا لم نتمكّن من إجتيازه الّا بعد ساعة ونصف الساعة، حتى وصلنا الى وادٍ ضيّق مكننا من الإطلالة على البحر مجدّداً”
كما روى الأب اليسوعيّ جوزيف غودارد رحلته الى الشمال وزيارة دير سيّدة النوريّة، مطلع القرن العشرين، وكيف استقبله الكاهن الذي يعيش مع عائلته في الدّير، وشرح رسم أيقونة والدة الإله أمّ النور. وختم وصفه بأن الحجّاج لا ينفكّون يؤمّون الدّير بخاصّة في الخامس عشر من شهر آب، ومع ذلك كما يقول “الدّير ميت وخالٍ من الرهبان ونحن نجد المأساة ذاتها في أديرة أرثوذكسيّة أخرى في الكورة مثل دير سيّدة حماطورة ودير سيّدة الناطور ودير سيّدة البلمند
الدّير القديم
تأسّس هذا الدّير في منتصف القرن السادس على يد المتوحّد عبد المسيح الأنفيّ اللّبنانيّ. ويروي ميكاس متروبوليت حلب في العام 554 فيقول: “إنّ الدّير صغير الحجم والمتوحّدون في صوامعهم وكهوفهم لكنّ الدّير عظيم النعمة. يكفي أن يقرأ الزائر قصّة الراهبين الذين أسّسا المنسك بأمر والدة الإله، وهما المتوحّد عبد المسيح الذي من أنفه والمبتدئ يوحنّا بن كسانوفون”. وكان هذا الأخير ابن أحد الوجهاء اليونانيّين، وقد نجا من الغرق أمام شاطئ الدّير بفضل أمّ النور والراهب عبد المسيح، ومكث راهباً في الدّير ثلاث سنوات ثمّ انتقل الى دير القدّيس سابا في فلسطين
تصل الى الدّير القديم إمّا من خارج الدير الجديد، أو من باب في الجدار الشمالي الغربي من الرواق الداخلي، يقود الى حديقة صغيرة تشاهد عبرها منظراً رائعاً للبحر والشاطئ. من الحديقة تسلك درجاً يتبع انحراف الجرف الصخريّ الى المغارة العجيبة التي يقال إنّ العذراء ظهرت فيها للبحّارة. عند نهاية الدرب ممرّ مسقوف قصير على جانبيه بضع صوامع والى اليسار نبع ماء
تقع المغارة مباشرة خلف الصوامع وهي مزوّدة بباب ونافذتين وبضعة مقاعد ازاء المذبح. في هذه الكنيسة الصغيرة الخشوع يلف المكان من الأيقونات الى رائحة البخور والشمع التي تمتزج بنسيم البحر وأريج الزهور البرّية
الصخر داخل المغارة عتيق يذكّر بأيام غابرة، والحجارة غطّاها التاريخ بطبقة سوداء تحكي قصص الرهبان والصلوات، والبحّارة الناجين من الغرق، بفضل نور السيّدة المنيرة
كرّست الكنيسة على إسم رئيس الملائكة ميخائيل، أعيد بناؤها في القرن الثامن، ثمّ رمّمت العام 1950، ورمّمت القلالي القديمة في العام 1990، وبعده في العام 2007، حين أضيف اليها الأيقونسطاس”
الأيقونات الملكيّة رسمها نيقولا فافوبولواليونانيّ، أمّا أيقونات الرسل فكتبتها الراهبة بيلاجيا تبشراني من دير سيّدة الدخول في الأشرفيّة العام 1937
محطّات في تاريخ الدّير
بفعل الزلزال الضخم تشكّلت مغاور وكهوف سكنها نسّاك ورهبان، حتى بات رأس الشقعة يحاكي مناسك جبل آثوس المقدّس. وانتعشت الحياة الروحيّة في دير أوّل داخل جرف صخريّ لم يكن مزوّداً الّا بحائط حجري واحد يقع في الجهة الشماليّة المواجهة للبحر. وهو مقسّم بكامله الى صوامع للرهبان يصل عددها الى عشرين، منها ما بقي صامداً بوجه الزمن، ومنها ما هو أثر بعد عين. أمّا جهات الدّير الأخرى فمحاطة جميعها بالجرف الصخريّ حتى إن الكنيسة كانت مغارة، وهذا حسب ما جاء في كتابات الرحّالة الروس الذين زاروا الدّير
في العهد العثماني، احتلّ الأتراك الدّير واتّهموا رئيسه الأب الياس بطيخة، من بيروت، بأنه يعطي السفن المعادية إشارة سرّية للأعداء، فأجابهم أنّ والدة الإله هي التي تنير للسفن في الليل، فوضعوا حرّاساً وعندما تحقّقوا من صدق قوله وأبصروا النور آمنوا بعجائب والدة الإله
في 22 آب 1883، وردت رسالة من المطران غفرائيل الى رئيس دير حماطورة الخوري يوانيكيوس حايك، يطلب فيها منه أن يدفع لرئيس دير سيّدة النوريّة الأرشمندريت جراسيموس، أجرة المعلّمين الذين يعملون في الدّير
في 3 تشرين الثاني 1884، رسالة أخرى ترد من المطران الى الخوري يوانيكيوس حايك، وموضوعها حلّ شراكة دير النوريّة في تربية البقر مع يعقوب حنّا من حامات، بسبب الجفاف وعدم قدرة الدّير على تأمين علف للبقر
في 27 آب 1887، وفي رسالة ثالثة، يطلب المطران مساعدة الخوري يوانيكيوس على تصريف محصول دير سيّدة النوريّة من التبغ المصري
في العام 1917، جدّد المطران بولس أبو عضل مطران جبل لبنان الكنيسة الجديدة
في العام 1921، أسّس سيادته مدرسة داخليّة ضمّت عدداً من أبناء الطائفة
في العام 1937، وبهمّة مطران جبل لبنان إيليّا كرم شقّت الطريق بين حامات والدّير، ولتأكيد هذا الخبر كتب رئيس دير سيّدة النوريّة في العام 1937 الى رئيس دير سيّدة كفتون، يعلمه بأنّ طريق السيّارات اتّصلت بدير سيّدة النوريّة عبر حامات، وذلك في وثيقة رقم 397 ما تزال موجودة بين محفوظات دير سيّدة كفتون
في 26 تشرين الأوّل 1938، أقام المطران إيليّا كرم احتفالاً كنسيّاً ووضع في الكنيسة أيقونة النوريّة القديمة التي وجدت خلال الحفريّات في الكنيسة القديمة، وأعاد الى الدّير المدرسة الاكليريكيّة
في عام 1934، مدّت الدولة الإنكليزيّة خطاً حديديّاً يمرّ بنفق تحت جبل الدّير
في العام 1944، سلّم المطران إيليّا كرم الدّير الى جيوش الحلفاء فأقامت فيه القوات الفرنسيّة والإنكليزيّة حتى نهاية الحرب العالميّة الثانية
بين 1948 و 1949، إهتمّت جمعيّة السلام والمحبّة بترميم الكنيسة القديمة المنحوتة في الصخر
في العام 1952، استلمت الدّير حركة الشبيبة الأرثوذكسيّة ليكون مركزاً للرهبانيّة التي كانت تنوي تأسيسها. وانطلق فريق من اتّحاد الشبيبة المسيحيّة في العاشرمن نيسان، بحملة تنظيف وتوريق ودهان وتصليح وجلي بلاط، حتى أصبح للدير مطبخ وغرفة للطعام وأخرى للمنامة
وانطلاقاً من العام 1967، ابتدأت الرهبنة النسائيّة بثلاث راهبات أتين من دير سيّدة صيدنايا. وفي العام 1984، تبعتهنّ مجموعة أخرى من الدير ذاته، وانتهجن جميعهنّ نمط الحياة الرّهبانيّة المتّبع في دير سيّدة صيدنايا البطريركي، في الصلاة والعمل والنسك، الذي لا يقل قساوة عن نمط أديرة الرهبان
توالى على الدّير رؤساء عدّة منهم: الآباء ثيوذوسيوس كبّة من ميناء طرابلس، ألكسي السبط من دمشق، إلياس زخريّا من حامات، يوحنّا محفوض، وغيرهم ممّن تركوا بصماتهم على هذا الدير. أمّا اليوم فالرئيس هو الأرشمندريت جورج صافيتي الذي شدّد على أهميّة الدّير من الناحية الروحيّة والجغرافيّة والسياحيّة، وفصّل بعض المشاريع التي يقوم بها الدّير، إن في المكتبة أو في الأوقاف أو البناء والترميم